سؤال سأله الدكتور ويل ديورانت* في بدايات القرن العشرين وفي عصر النهضة الأمريكية الفتية، فهل الديمقراطية تحتضر؟ بداية، لمن لا يعرف ويل ديورانت، فهو كاتب وفيلسوف وسيكولوجي ومؤرخ. صاحب مؤسسة ديورانت التي أصبحت مصدرا موثوقا للمعلومات. ساهمت المؤسسة في إثراء المكتبات لأكثر من نصف قرن في التاريخ البشري في مجالات الحياة والتاريخ والفلسفة.
ما كان يميز أسلوب ديورانت في الكتابة في النصف الأول من القرن العشرين، أنه لم ينظر للتاريخ على أنه مجرد سرد بارد لأحداث مختلفة في أمكنة وأزمنة وحسب، بل ذهب في التفكير إلى أن التاريخ "من صنع أناس أحبوا وحلموا وقاوموا وحاربو من أجل رؤى وأهداف معينة". وأيا كانت هذه الأهداف، أصبح لزاما على التاريخ أن يسجل لهم ذلك.لم تكن كتب ديورانت في تلك الحقبة، مثل كتاب " قصة الحضارة ، والذي أستغرقت كتابته خمسين عاما " و "قصة الفلسفة - 1926" و" دعوة إلى الفلسفة" و"سلطة التاريخ" و" أبطال التاريخ" و "أعظم العقول والأفكار على الإطلاق"ذات تأثيرا مهم و كبيرا وحسب، بل إنها ترتبط بما نعيشه اليوم وكأن الزمن قد توقف، أو مصداقا للقول المأثور أن "التاريخ يعيد نفسه". أتاحت لنا هذه الكتب وغيرها الفرصة للتحدث معه بشكل غير مباشر. فأصبح يخاطب فينا التلاميذ، والمعلمين، والآباء، والصحفيين، ورجال الأعمال والمثقفين وجميع من تتوق نفسه للغوص في أعماق المعاني وأسلوب التحضر والتنوير والتعامل مع االآخر. والقارئ لكتابات ديورانت، يلاحظ أنه كان شغوفا بدراسة الإنسان وأدق تفاصيل حياتة ورصدها بطريقة مبتكرة وغير قابلة للمنافسة. ولذلك لم يضع معرفته وأفكاره كغيره، بل وضعها بطريقة تاريخية فلسفيه تنويرية تتعلق بخريطة الإنسان وسمات شخصيته.
ولقد كتب يقول: " من الخطأ أن نعتقد أن الماضي قد مات، فكل ما حدث في الماضي له تأثير على الحاضر. والحاضر هو فقط عبارة عن تراكمات مركزه للماضي في وقت محدد في دائرة الزمن". وتفسير هذا أن الأنسان لم يكن يبدو على ما هو عليه إذا لم يكن له ماض تأثر وجهه فيه بمراحل وكون بذلك سيرة ذاتية، وبسبب جيناته الوراثية التي تساهم في تكون طباعه، ولوجود العديد من العناصر الطبيعية والبيئية. ليس ذلك فحسب، بل إن كل شخص تراه وكل كتاب تقرأه وكل ممارسة وخبرة حياتية، جميعها تتخزن في الذاكرة الدماغية، فتؤثر على الجسم والأعضاء والشخصية. إذن لن نفهم الحضارات إذا لم نستند إلى ماضيها، وبطبيعة الحال الإنسان نفسه هو أداة الحضارة الأولى.
إن التشاؤم الحدثي الذي نعيشه كان وما يزال سببه "نظرتنا للتاريخ وكأنة سيل إضطرابات للمتناقضات بين أفراد في خضم حياة إقتصادية، ومجموعات في تقلبات حياة سياسية، ومؤمنين في تطرفهم الديني، وبين دول في حروب مصطنعة" هكذا كتب ديورانت. وهذا هو أكثر وجوه التاريخ درامية، وعادة هذا ما يلفت نظر المؤرخ واهتمام القارئ. وللأسف لم يصبح التاريخ مجرد سجل لمخازن الحضارات فحسب، بل إنه أصبح يشكل صورة تمتلؤ بدماء الشعوب.
ولكن إذا تخلصنا أو تحررنا من هذا النهر الجارف "والمليء بالكراهية والظلام والدم، لما وجدنا الهدوء وحسب، بل سنرى مشاهد أكثر تحفيزا وإشراقا"، الكلام لديورانت في بداية القرن الماضي. هذه المشاهد يمكن أن تختزل ببساطة في إمرأة تعلم أولادها، ورجال يبنون المنازل والمنشآت، ومزارعون يحرثون ويزرعون ، ومعلمون يشكلون ثقافة أجيال، وعلماء يغربلون المعرفة بصبر وجلد، وفلاسفة يختبرون الحقائق، وسياسيون يسعون أحيانا لنشر السلام، وفنانون يغرسون في أعماقنا المحبة.
يقال أن هناك منطق فلسفي مهم وهو أن " كل حالة للتاريخ تقابلها حالة مناقضة". الحالتين معا يشكلان مزيجا يطغى فيمابعد ليكون حالة ثالثة جديدة أقوى من الحالتين الأصليتين. ولو طبقنا هذا المنطق على تشكيل حكومات الدول لرأينا نشؤ الديمقراطية من الأرستقراطية، وتحولها عبر الزمن إلى ابتكار مجهول المعالم. وهذا التحول النابع من أسس أرسقراطية يتبعه إفشاء قوانين معينة لا تستقيم بدونها الديمقراطية حيث تقوم الأرستقراطية في نهاية الأمر بقيادة ركب الديمقراطية ولكن ليس في شكلها المنشود. أو ليس هذا مألوفا اليوم؟
"كانت الديمقراطية السياسية في أمريكا مبنية على الديمقراطية الإقتصادية. فقد كانت العائلات في بلد كهذا تعيش في معزل عن بعض حيث يحكمون أنفسهم، ويزرعون خضرواتهم وفواكههم ، ويصطادون طعامهم، ويخيطون ملابسهم، وكان الناس ينظرون إلى بعضهم البعض بعين (الحرية والمساواة) واتخذت بذلك مسمى الأرض الحرة. وهذا المبدأ جعل أشخاص (رؤساء) مثل توماس جيفرسون وأندرو جاكسون يتجرأون ويثورون ويهدفون للرئاسة" الكلام أيضا لديورانت.
"الأرض الحرة" أتاحت مبدأ المنافسة الحرة، والعمال المهرة وبساطة الأدوات أتاحت فرص الإكتفاء الذاتي لكل فرد تقريبا، ولكن الديمقراطية - بعد أن لبست الملفح الإقتصادي - عزلت هذا كله فنشأت المصانع والمدن المزدحمة، واتسعت رقعة الإحتكار وفكرة والأندماج، ونشأ ما يسمى بالتحكم المالي المركزي. أو ليس هذا مألوفا أيضا؟ يواصل ديورانت "إن هذا ساهم في غلاء تلك الأدوات البسيطة نظرا لتحكم المؤسسات الكبرى بالإقتصاد. كذلك تم نشر معلومات مغرية وغير دقيقة للسكان الضعفاء الذين أصبحوا لا يملكون من أمرهم شي سوى اللهث وراء ما يروج له وينتشر من غير حول لهم ولا قوة".
إن تعقد الصناعة واتساع الرقعة السكانية وتطور العلاقات الخارجية وتعقدها في أمريكا مثلا، واحتمالية حدوث (إفتعال) حروب سواءا داخلية أو خارجية ساهم في إستبدال المشكلات السياسة بالمشكلات الإقتصادية وهذا ما سبب عجز السياسيون الذين تم أنتخابهم على أسس ومعرفة سياسية. فأنهم لم يستطيعون فعل شي إزاء تلك الإقتصاديات من القضايا ما سبب تغير فكري وسياسي بحجم سرعة التطور السكاني والعمراني. ولذلك لجأ السياسيون إلى الإقتصاديين الذين مارسوا سياساتهم الضاغطة وربحوا الرهان. كل ما سبق من عوامل خلق مبدأ "الحرية والمساواة" والذي كان وهما كبيرا ساهم في "نشر ديمقراطية غير حقيقية". ومن خلال نافذة جميلة، يتم "إستغلال الجمائل للحصول على الأصوات واستغلال الجريمة وفرض الطاعة وملئ الشوارع بالفساد"، كما يعترف ديورانت. وكأنه يتحدث عما يحدث اليوم أو بمعنى آخر وكأن تلك الطقوس المستخدمه في ذلك الزمان هي نفسها التي تستخدم في هذا الزمن، ربما مع إختلاف الأدوات.
إن "هذا النوع من الديمقراطية لم يعد يقنعنا بعد الآن ولذلك يجب علينا إنقاذ الديمقراطية من المجموعات الكثيرة والتي وهبت نفسها بسهولة وانقادت وراء هوس الحضارة الغير حقيقية. وكذلك علينا إيجاد طريقة لعدم تمكين الأرستقراطية من دس أهوائها لإنشاء قوانين الديمقراطية ولذلك نحن نحتاج لوضع الديمقراطية الكاملة فوق الجميع ويجب علينا نشر مبدأ تكافؤ الفرص والذي يمثل أحد أسس العملية الديمقراطية" فقد أصبحت أمريكا أسوأ الأمم الغربية كما يقول ديورانت.
ربما نحن كمسلمين لا نحتاج لهذا كله في وجود تاريخ هائل من أساليب العيش بما فيها الديمقراطية (في كتاب الله عز وجل) وأساليب الحكم والإقتصاد والتكافل والتكافؤ (في السيرة المحمدية) وبروز الجناح العسكري القوي (في الفتوحات الإسلامية). ولكننا للأسف لم نستثمر ذلك ولم نستمر في التمسك بذلك كله وحبذنا مسخ الهوية في التسارع إلى زيف الحضارة.ولكن ديمقراطيا، نستطيع أن نستشف بعض الأسئلة ضمن هذه الدائرة بل ربما تدفعنا إلى الديمقراطية المنشودة يوما ما. لماذا لا تحتوي مدارسنا وجامعاتنا على مناهج لتعلم الإدارة والقانون، كاحتوائها على المعلومات الفيزيائية والكيميائية والدينية وعلوم اللغة؟ لماذا لا يتم تفعيل دور مكتبات الجامعات، وإنشاء مكتبات عامة، وتيسير الدخول لها والإستفادة من مخزونها؟ لماذا لا يتم تشجيع الكتّاب ليس فقط للكتابة، بل لطباعة ونشر كتبهم وأبحاثهم ومقالاتهم دون منة؟ إن المستفيد الأول من ذلك هو المجتمع، فالمبدعون لا يحتاجون لمحفز بقدر ما يحتاجون لمساحات. ولا يكمن تحفيزهم فقط في طباعة ونشر إبداعاتهم بل أيضا في إستحداث مسابقات لتقييم ما قدموه وتكريمهم لما يطرحون.
عزيزي القارئ، إذا كانت هذه الكلمات التي خطها د. ويل ديورانت في مقاله في أوائل القرن العشرين تقرع جرسا في ذهنك لارتباطها بالواقع المعاش الآن، فإن ما أضفته ما هو إلا إستقراء لموضوع قديم حديث وكان لزاما علي أن أعترف- كما يعترف الكثيرون ومن ضمنهم ديورانت نفسه - أنه يمكن أن يكون حلما. نعم حلم، كما حلم الفلاسفة والمبدعون والمخترعون في العصور الأولى للحضارة. ونعم أيضا، لانه يجب أن نحلم لأن ذلك أول خطوات الأبداع. فما حلم به هؤلاء وغيرهم أصبحنا نعيشه واقعا. وما نحلم به نحن الآن ربما يتحقق، إذا لم يكن في وقتنا فللأجيال القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق